Saturday, December 5, 2009

المسار..



أنا الآن في الطريق من مدريد إلي اشبيلية في الجنوب..

شاء القدر أن أسلك طريقا يختلف عن ذاك الطريق الذي سلكه أجدادنا إلي هذي البلاد..

فقد بدأ الطريق إلي الأندلس في عام 91 من هجرة النبي حيث قام الأمير موسي بن نصير بإرسال سرية لتستكشف الأندلس كان يقودها قائد مقدام هو طريف بن مالك.. فنزل في إحدي الجزر الصغيرة قرب الساحل الأندلسي فكان أول مسلم تطأ قدمه أرض الأندلس.. وقد بقيت هذه الجزيرة إلي الآن تحمل اسم طريف بن مالك..فتسمي بالأسبانية tarif
ثم انطلقت كتائب الفتح علي يد القائد العظيم طارق بن زياد من الجنوب أيضا من طنجة في المغرب إلي الجزيرة الخضراء في جنوبي أسبانيا (والتي لا تزال تحمل اسما عربيا ..فتسمي الآن بالأسبانية: الجزيراس Algeciras).. ثم انطلق الفتح إلي الشمال..

أما أنا.. فقد جئت من أمستردام إلي مدريد و هبطت جنوبا.. فلم أسلك مسلك الفتح.. ولكن سلكت مسلك التراجع والإنهزام الذي بدأ من الممالك المسيحية في الشمال ثم هبط جنوبا.. وأنا أري أن هذا المسار –مسار الهزيمة لا مسار الفتح – أليق بمن هو في مثل حالي و حال أمتي..

وتأملت في فكرة المسار.. وكيف ننظر إلي الطريق الذي يوصلنا إلي الغاية.. واضطربت في نفسي بعض الخواطر التي ربما لا يجمع بينها جامع إلا أنها تدور حول فكرة المسار..

(1)
تذكرت حلم المسلمين الأوائل من أبي أمية بعد فتح الأندلس أن يحققوا نبوءة رسول الله فيفتحوا القسطنطينية.. وحلموا أن يأخذو المسار من الغرب إلي الشرق.. ففتحوا الأندلس (اسبانيا و البرتغال) ثم فتحوا جنوب فرنسا .. ووصلوا إلي 80 كيلومتر جنوبي باريس .. وجاءت معركة بلاط الشهداء (أو بواتييه) لتنهي هذا الحلم.. فقد جمعت أوروبا جحافلها خلف شارل مارتل.. وقاد المسلمين عبد الرحمن الغافقي في معركة لو كُتب للمسلمين النصر فيها لما وقف أمامهم في أوروبا شيء.. ولفتحوا أوروبا بيسر حتي القسطنطينية..

وانكسر علي صخرة بواتييه حلم ذلك المسار..

وتذكرت أيضا حلم العثمانيين الذين بزغت شمس دولتهم عند غروب شمس دولة الإسلام في الأندلس.. فحلم سلاطين العثمانيين بمسار آخر.. إلي الأندلس ليحرروها.. وقد اختاروا مسارا من الشرق إلي الغرب هذه المرة.. فكان أن فتحوا تركيا و أجزاء كبيرة من يوجوسلافيا ورومانيا و اليونان والنمسا.. ثم حاصروا فيينا بقيادة السلطان الخالد سليمان القانوني.. ولكنهم لم يستطيعوا فتحها..

وانكسر في فيينا حلم هذا المسار كذلك..

في كلا المسارين رام المسلمون طريقا صعبا و طويلا.. حلموا في كلا الحالين أن ينشروا الإسلام في أوروبا كلها.. كان حلما كبيرا وصعبا.. أو مسارا طويلا و شاقا.. لم يتحقق.. ولكن تحقق جزء منه هو عظيم حتي وإن لم يكن هو الحلم كله.. وكذلك مساراتنا في الحياة.. كلما أردنا أن نقطع الطرق الطويلة و الشاقة ..ربما لا نقطعها إلي النهاية.. ولكن الجزء من المسار الطويل.. طويل أيضا
أما إذا أردنا من البداية أن نطرق طرقا قصيرة و سهلة.. فستظل انجازاتنا عادية..

(2)
الشريعة في لغة العرب هي الطريقة التي توصل إلي الماء.. فهي مسار النجاة في الصحراء القاحلة إذ تقودك إلي الماء.. وقد اصطلح العرب علي كلمة شريعة لما جاء عن النبي صلي الله عليه وسلم من أحكام الإسلام الإعتقادية و العملية .. ولابد من علاقة ما بين المعني اللغوي والمدلول الإصطلاحي للكلمة.. وكأن الله قد خط لنا مسارا في هذه الحياة وأراد منا أن نتبعه.. حتي نصل إلي الغاية .. والتي هي سعادة الدنيا و سعادة الآخرة

(3)
خاطرة أخري.. أن صلاح الغايات لا يكفي دون صلاح المسارات.. وأن الله كما تعبّدنا بالغايات.. فقد تعبدنا بالمسارات التي توصل لها..

(4)
كم من دماء المسلمين سالت علي هذه الأرض.. إن كل نبتة في هذا مسار الأندلس من الشمال إلي الجنوب قد روت من دماء شهيد فارس من أجدادنا.. حتي لكأني بالتراب الأحمر الذي يغطي أرض الأندلس إنما احمرّ من كثرة ما رُوّي من الدماء..
لقد بذلوا في ذلك الطريق.. الذي شاخ فيه نوح.. وقُتل فيه يحيي.. وألقي فيه في النار إبراهيم.. وسُجن فيه يوسف.. و أوذي فيه سيد الخلق.. صلي الله عليه وسلم..

1 comment:

  1. أحمد يا أحمد
    يا اللـــه كم شعرت بصدق كلماتك وحنين يشدنا إلى أمجاد أجدادنا ، فكلماتك ليست كغيرها من الكلمات العادية بل هي كلمات فيها من الشعور الصادق والتوثيق التاريخي والصورة الحالية والنفحة الفكرية في ما تراه وتبصره في أرض رواها أجدادنا بدمهم...كما أضاعها من أتو بعدهم
    ولعلنا سنعيدها بفكرنا وقرآننا وحكمتنا

    ننتظر جديدكم

    ReplyDelete