Monday, December 7, 2009

الأطلال..



أنا الآن في أجمل جبل في الدنيا.. ذلك الجبل الذي تسكن فوقه مدينة الزهراء.. أو ما تبقي منها..

بكي شعرائنا كثيرا علي الأطلال..

فقال امرؤ القيس:

قفا نبك من ذكري حبيبٍ ومنزلِ
بسقط اللوي بين الدَخول فحومل

وقال طرفة بن العبد:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلدِ

وقال النابغة الذبياني:

يا دارَ مَيّة َ بالعَليْاءِ، فالسَّنَدِ،
أقْوَتْ، وطالَ عليها سالفُ الأبَدِ
وقفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائِلُها،
عَيّتْ جواباً، وما بالرَّبعِ من أحدِ

وقال البوصيري:

لولا الهوي لم تُرق دمعا علي طلل
ولا أرقت لذكر البان و العلم..

وقد اشتهر البكاء علي الأطلال في مقدمات شعرنا العربي..

تذكرت هذا التراث وأنا أقف-لأول مرة في حياتي ربما – أبكي علي الأطلال..

زرت اليوم أطلال مدينة الزهراء في قرطبة..

من تلك المدينة خرج حكام ركبوا جياد المجد.. من هنا.. من مدينة الزهراء كانت تشرق الشمس علي الدنيا بأسرها..

كان هنا رجلٌ واحد يحكم شبه جزيرة أيبريا وحده.. وما دانت تلك الأرض الصعبة المِراس لأحد قبله ..و لا دانت لأحد بعده.. مثلما دانت إليه
هنا كان عبد الرحمن الناصر.. من أعظم حكام الأندلس .. يحكم هذي البلاد خمسين عاما يحل مشكلاتها و يبني مساجدها و يعمّر مدارسها و يشق أنهارها .. كان يشتري الكتب من كل أرض و يضيء بها مكتبات قرطبة..

وكأني به يخبّر بجيش من الشمال آتٍ لمحاربته..والكل من حوله في قلق واضطراب.. فإذا هو يلم شعثهم .. ويشحذ هممهم.. فينتصر

وكأني به وهو يوصي عامل لديه.. أن يقطع الفيافي إلي يغداد.. ليأتيه بكتاب أو كتابين لينسخهم في مكتبات قرطبة العامرة.. والتي بلغت في عهده في هذه المدينة الصغيرة سبعين مكتبة..

وكأني به تأتيه الوفود من أوروبا تلهث منه الرضا و الكف.. فيبتسم لهم .. ويحسن وفادهم.. ليريهم خلق الإسلام.. كما يريهم عز السلطان..

وكأني به يقسّم قرطبة إلي ثمانية وعشرين ضاحية.. ويجعل لها شرطة بالليل وشرطة بالنهار..ويضع نظاما لمراقبة التجار..ونظاما لجباية الأموال.. ونظاما للبريد.. ونظاما للري و توزيع المياه.. ونظاما للقضاء.. ونظاما للحسبة..

وكأني به يأتي بأبي علي القالي – الأديب الشهير صاحب كتاب الأمالي – ليأدب ابنه و يربيه.. ليشب ابنه علي العلم و الدين و التربية و الخلق..

لم تلن له قناة.. خمسين عاما ..يبني بيد.. ويقاوم بأخري..

هنا .. في مدينة الزهراء.. عاش سيد أوروبا.. يزع الله به بالسلطان ما لا يزع بالقرآن
..
ولكن.. راح عبد الرحمن.. وبقيت الأطلال تحكي لنا بعض حكايته..

ولهذا فإن أثر الأطلال في النفس عجيب.. فهي تعلمنا أن كل شيء إلي زوال... وأن المجد مهما علا و ارتفع فإن مصيره –كأي شيء في هذه الدنيا – إلي الفناء..
فما من عز بلغ مثلما بلغ عز عبد الرحمن الناصر.. ثم صار ما بناه أثرا بعد عين..

وما من شعور تملك من القلب مثل الحب.. ولكن دائما ما ترحل الحبيبة.. ويبقي الأطلال..

ودائما ما تنبت الأشجار أوراقا تكون نضرة خضرة.. ثم تسقط.. وتذروها الرياح.. وتبقي الأطلال

ودائما ما نلقي أناسا فنحبهم... ثم يعمل فينا وفيهم عمل الزمان.. فيضحي التنائي بديلا عن
التداني.. والتجافي بديلا عن طيب اللقاء.. ويبقي لنا منهم صور وذكريات و حكايات.. و أطلال..

"أحبب من شئت فإنك مفارقه".. صدقت يا رسول الله..

كم من ملك عاش ومات .. و كم من جبار ظلم و طغي.. وكم من إمام عادل .. وكم من دولة قامة.. وكم من حصن بني.. ودار أنشأت.. وكتاب سُطّر.. وحبيبين اجتمعا.. كل شيء ذهب..ولم تبقي إلا الأطلال..

يا ساده.. إن الأطلال شاهد حي فصيح.. يعلمنا أن لكل شيء نهاية.. حتي الأطلال التي تبلغنا هذا البلاغ ما تلبث هي الأخري أن تدور عليها عجلة الزمان .. فلا يبقي لها أطلالا..


كل شيء إلا زوال.. أندلسا و غير أندلس..

1 comment:

  1. لكن ما أقسى أن ترى طللا لمجدك !!
    ربما لو لم تره لكان خيرا لك .. إلا لو أثارت رؤياه في نفسك القوة لتستعيده تارة أخرى !
    رائع يا أحمد
    رائع

    ReplyDelete