Monday, December 7, 2009

سلاما يا قرطبة..


عزيزتي قرطبة..








قال شاعرنا القديم:

قفي قبل التفرّق يا ظعينة

نخبّرك اليقين و تخبرينا

وأنا الآن مسافر عنك وظاعن.. وكان لابد أبث إليك بعض شوقي وشكوتي..

اعذريني يا قرطبة.. يا صاحبة القلب الطيب.. إذ أتركك الآن كما تركناك من قبل.. وحيدة غريبة في هذه الأرض.. كل مدائننا تجتمع في المشرق.. دمشق والقاهرة وبغداد واسطنبول.. أما أنت فقدّر لك البين من زمن.. كطفلة حيل بينها وبين أهلها من صغر.. فنشأت بعيدا عنهم..

فكان أن ظن الجميع أنها ستكون علي غير أخلاق أهلها.. فأثبتِّ للجميع أن النبتة الصالحة تصلح في أي أرض..

فلم تكتفي أن تكوني كأخواتك في المشرق.. ولكن كنت من سعة الكرم أن أفضت علي أهل المشرق و المغرب علي السواء..

فكان منك أبا الوليد بن رشد..


رجل - كما وصفوه- مد يده اليسري فصافح أرسطو.. ومد يده اليمني فصافح رينان و ديكارت.. ولولا ابنك هذا يا قرطبة.. لم يكن لأوروبا فلسفة إذ منه عرفوها.. وبه فهموها..

وكان من أبناءك يا قرطبة.. الإمام أبو محمد علي بن حزم القرطبي الأندلسي..


بحر العلوم و المعارف.. كتب كتابه الخالد "طوق الحمامة" عن الحب و أحوال المحبين.. فكان أن حطت حمامته في قلوب كل من عرف الحب في كل زمن و في كل مكان.. وقضي حياته في سبيل العلم فكان من أكثر أهل الإسلام تصنيفا للكتب.. فكتب في الفقه و الطب و الأدب و اللغة و التاريخ والأنساب و الفلسفة و الشعر.. حتي قال:

مُناى من الدنيا علومٌ أبثّها

وأنشرها في كل باد وحاضر

دعاء إلـى القـرآن والسنن التـى

تنسى رجالٌ ذكرها في المحاضر

وعلي أرضك يا قرطبة.. جاء زرياب.. فعزفت الأندلس علي ألحانه .. وزاد في العود وترا خامسا.. ونقل من أرضك إلي أوروبا كلها أشياء لم تكن يعرفها أهل أوروبا.. كالصابون ومعجون الأسنان و مزيل العرق .. ففضت علي أوروبا بالعلم.. والفن.. و النظافة..

أبهرت الشعراء يا جميلة المدائن.. فتنافسوا في الغزل.. فمنهم من قال:

بأربع فاقت الأمصار قرطبة

منهن قنطرة الوادي وجامعها

هاتان ثنتان والزهراء ثالثة

والعلم أعظم شئ وهو رابعها

وآخر قال:

وليس في غيرها بالعيش منتفع

ولا تقوم بحق الأنس صهباء

وكيف لا يذهب الأبصار رونقها

وكل روض بها في الوشى صنعاء

أنهارها فضة ، والمسك تربتها

والخز روضتها والدر حصباء

وللهواء بها لطف يرق به

من لا يرق وتبدو منه أهواء

أين شوارعك يا قرطبة التي كانت من ألف عام مضاءة بالليل.. فكانت تشع بالنور الحسي و المعنوي .. في وقت كانت فيه لندن هي مجموعة الأكواخ الطينية المتسخة علي نهر التايمز..

أين حمّاماتك يا قرطبة .. التي كانت تزيد علي الألف.. حينما لم يكن في قصر فرساي في باريس حمّام واحد..

أين ناعورتك (الناعورة هي الساقية).. التي كانت تحمل الماء من النهر إلي كل بيت قرطبي ليهنأ بشبكة المياه من ألف عام.. ثم شبكة أخري للمجاري و الماء المستعمل

أين الجواري التي كن يمشين علي جسرك الجميل.. فيكسبن في كل عبور علي ذاك الجسر جمالا ووضاءة و رقة وعذوبة..

أين مسجدك العامر الذي كان واسطة العقد.. يمتلأ بالمسلمين ما بين عابد و داعٍ و معلّم و متعلم.. ويأسر العين بأقواسه.. لقد قلبوه كنيسة.. فسددوا الطعنة إلي قلبك يا قرطبة

أين نوافذ ذلك المسجد... أغلقوها جميعا زعما منهم أن الظلام يبعث علي الخشوع.. ولم يتعلموا منك أن المسجد لابد أن يملأه النور.. وهذا هو الفرق بيننا و بينهم يا قرطبة.. فرق بين النور زالظلام

وأين محرابه الجميل البهيّ.. الذي حوي مصحف عثمان بن عفان وقطرات دمه الشريف علي صفحاته.. ذلك الدم الذي بسببه قامت لبني أمية دولتهم و مُلكهم.. فحفظوه في محراب جامعك الذي بلغ فيه مجدهم ذروته..

أين مكتباتك التي بلغت سبعين مكتبة يا قرطبة.. في مكتبة واحدة منها فقط 400 ألف كتاب.. كانت تحوي علوم الشرق و الغرب و الأمس و اليوم..

أين القرطبي صاحب التفسير.. و أين الزهراوي الطبيب.. وابن عطية و الباجي و ابن عبد الب وأبو علي القالي وابن سيده و ابن هانئ الأندلسي.. بل أين ثربانتس .. أديبك العظيم .. وأين دون كيخوته..

ماذا أفادتك حضارة ألفونسو إلا أن جعلتك بعد ستمائة عام مدينة تعج بمطاعم الماكدونالدز.. وبفتيات الليل وأهل البغاء..

سامحينا يا قرطبة إذ تركناك وحيدة بعد أن عرفت المجد.. لقومٍ لم يعرفوا من أخلاقنا: "ارحموا عزيز قومٍ ذل"

إن النساء يا قرطبة كالمدائن.. فمنهنّ جميلة أصيلة كاسطنبول..أو مجنونة متجدّدة كبيروت.. أو عريقة صابرة كبغداد.. أو نورانية روحانية كالقدس..

أما أنا.. فلا أريد إلا امرأة مثلك يا قرطبة.. امرأة تختصر كل النساء.. كما اختصرتِ أنت كل المدائن..

سلاما .. يا قرطبة




2 comments:

  1. ابعث لقرطبة السلام فإنها خرجت على الدنيا فلم تتبسمِ
    واسكب علي جيان ألف قصيدة وامزج إذا ما شئت دمعك بالدمِ
    أتراك تُعذر إن طليطلة اشتكت ظلم النصارى أو قعود المسلمِ

    مازلنا نذكر أندلسا
    نبكيها في صبح و مسا
    ليست أندلسا واحدة
    فلكم ضيَّعنا أندلسا

    ReplyDelete
  2. :)
    I bookmarked this post for delicious ..it's beyond delicious !!

    ReplyDelete